صراع السلطة في تركيا- أردوغان يواجه تحديات داخلية وخارجية.

أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفض بلاده القاطع لـ "إرهاب الشارع"، وذلك عقب دعوة أطلقها حزب الشعب الجمهوري المعارض لتنظيم مظاهرات في مختلف أرجاء البلاد. تأتي هذه التصريحات في ظلّ احتجاجات تشهدها مناطق متفرقة من تركيا، على خلفية قرار توقيف رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، أحد أبرز معارضي الرئيس التركي.
وكانت الشرطة التركية قد ألقت القبض على أوغلو يوم الأربعاء الموافق 19 مارس/ آذار الجاري، وذلك قبل أيام قليلة من الموعد المتوقع لإعلان ترشحه لانتخابات الرئاسة التركية. ووجهت النيابة العامة إليه اتهامات تتعلق بالفساد، وتقديم العون لجماعة إرهابية، والضلوع في قيادة "منظمة إجرامية".
في المقابل، يرى مراقبون أن هذه الإجراءات القضائية تمثل جزءًا من حملة واسعة النطاق يشنّها الحزب الحاكم ضد شخصيات المعارضة البارزة في مختلف أنحاء البلاد خلال الأشهر الأخيرة. ويُعتبر أوغلو، الذي يترأس حزب الشعب الجمهوري العلماني، أحد أقوى المنافسين السياسيين المحتملين للرئيس التركي أردوغان على منصب الرئاسة.
إن مشهد الصراع المحتدم على السلطة ليس بالأمر الجديد على الساحة التركية، فالتاريخ يشهد على تدخلات متكررة للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسية عبر 4 انقلابات عسكرية، كان اثنان منها كفيلين بتغيير الحكومة دون بسط الجيش سيطرته الكاملة على مقاليد الحكم.
إن الصراع الدائر بين المؤسسة العسكرية والأحزاب العلمانية من جهة، والحزب الحاكم الحالي من جهة أخرى، يتجاوز في تأثيره الحدود الجغرافية لتركيا، ويمتد ليشمل ساحات إقليمية وربما حتى دولية. فقد مثلت المؤسسة العسكرية، منذ تعزيز نفوذها في السلطة خلال عهد كمال أتاتورك، الضمانة الأساسية لمصالح الغرب في المنطقة، إذ كان من تولوا السلطة بعد عام 1924، أي بعد نهاية الخلافة العثمانية، بمثابة التلميذ المطيع للغرب؛ سعياً للحصول على الرضا بهدف إدخال البلاد في الاتحاد الأوروبي.
لكن في 15 يوليو/ تموز من عام 2016، شهدت تركيا محاولة انقلاب فاشلة، أعقبتها تغييرات جذرية وهيكلية طالت جوانب عديدة من الدولة. ففي ذلك اليوم، قام متمردون بإغلاق الشوارع في أنقرة وإسطنبول، وكُلفت وحدات القوات الخاصة بمهمة اعتقال الرئيس أردوغان، وكان من المفترض أن يكون اعتقاله ذروة الانقلاب العسكري. وبعد إخماد الانقلاب، أطلقت السلطات حملة اعتقالات واسعة النطاق، شملت أكثر من 160 ألف شخص بين معتقل ومفصول من مختلف الوظائف والقطاعات.
وفي هذا السياق، تتشكّل التحركات القضائية الأخيرة ضد رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، والاتهامات الموجهة إليه- والتي تتضمن تشكيل منظمة إجرامية، والتلاعب بالمناقصات، والاحتيال، وتلقي الرشاوى، وإساءة استخدام السلطة، وتقديم الدعم المادي لتنظيمات إرهابية وتوظيف عناصرها في البلديات- إشارةً جلية إلى أن الساحة السياسية التركية تشهد عملية إعادة تشكيل داخلية.
إن عبارة "إرهاب الشارع" التي استخدمها أردوغان، يجب ألا تُفهم بمعناها الضيق والحَرفي، فهي لا تستهدف المتظاهرين السلميين، فمبدأ التظاهر السلمي حق يكفله الدستور التركي. فالرئيس أردوغان يدرك تمام الإدراك أن هناك قوى ودولاً تسعى جاهدة لإثارة الفوضى والاضطرابات داخل تركيا؛ بهدف إعادة تموضعها وتعزيز نفوذها في المنطقة.
إن استغلال حركة التظاهرات الشعبية قد يصبّ في مصلحة أطراف خارجية تتربص بتركيا وتنتظر سقوط أردوغان وحزبه، وليس من قبيل المصادفة أن تأتي هذه الاحتجاجات بعد أيام قليلة من إعلان جهاز المخابرات التركي في 15 مارس/ آذار الماضي، عن إلقاء القبض على 5 مشتبهين بهم، ثبت تورطهم في التجسس لصالح المخابرات الإيرانية في عملية أمنية نُفذت في ثلاث ولايات تركية، بما في ذلك إسطنبول.
وكشفت التحقيقات أن الجواسيس قاموا بنقل معلومات حساسة حول قواعد عسكرية ومواقع استراتيجية في تركيا، بالإضافة إلى نقاط مهمة في الخارج، إلى الاستخبارات الإيرانية. كما تبين أنهم كانوا على اتصال مباشر بعناصر استخبارات تابعة للحرس الثوري الإيراني، وذلك بحسب تقرير بثّته قناة CNN TURK الإخبارية.
ليس من الضروري بالضرورة وجود صلة مباشرة بين رئيس بلدية إسطنبول المعتقل والمخابرات الإيرانية، ولكن المؤكد أن ممارساته المشبوهة في إدارة الحكم، قد تشكل فرصة سانحة للحرس الثوري الإيراني للتغلغل في المقاطعة واستغلال الأوضاع.
إن توقيف شبكة التجسس تزامن مع تحركات مشبوهة لفلول النظام السوري وجماعات موالية لإيران في منطقة الساحل السوري، الأمر الذي يعزز من فرضية وجود ترابط بين الأحداث، والتي تصبّ جميعها في نهاية المطاف في صالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بهدف إعادة تموضعها من جديد في سوريا، وفتح ممر آمن لنقل "السلاح والمال" إلى حزب الله في لبنان.
لهذا، وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها كل من إيران وتركيا لإظهار علاقتهما في صورة ودية ومستقرة، إلا أنّ التباين في الأهداف والمصالح كان واضحًا وجليًا في الملف السوري، وذلك بعد اللقاء الذي جمع وزيرَي خارجية البلدين؛ هاكان فيدان، وعباس عراقجي.
ولا يقتصر الأمر على الدور الإيراني، بل هناك أيضًا تضارب حاد في المصالح بين تركيا وروسيا على الأراضي السورية. ففي هذا السياق، كشفت رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى رئيس الجمهورية السورية أحمد الشرع، والتي أفصح عن مضمونها المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، يوم الخميس الموافق 20 مارس/ آذار الجاري، أن "موسكو متمسكة بدعم الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار في سوريا، وبما يضمن سيادتها واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها".
إلا أن هذه الرسالة لا تبعث على الاطمئنان لدى الجانب التركي، لا سيما وأن أنقرة تعتبرها تدخلًا سافرًا في الشأن السوري، وتحديدًا في إطار الصراع المحتدم على النفوذ بهدف إقصاء الدور التركي المتنامي. وصحيح أن روسيا تسعى للتقارب مع السلطة الانتقالية في سوريا من أجل ضمان استمرار العمل في قاعدتَيها العسكريتين؛ حميميم وطرطوس، إلا أنها تعمل في الوقت ذاته على تحجيم النفوذ التركي المتزايد.
يستشعر الرئيس أردوغان الخطر الداهم الذي يتهدد بلاده، ولهذا فهو يسارع الخطى لاحتوائه ومواجهته، لأنه يعتبره تهديدًا خطيرًا لأمن البلاد القومي. ففي تقديره، أن المرحلة الحرجة التي تمر بها المنطقة لا تحتمل وصول رؤساء فاسدين إلى السلطة؛ خشية أن تعود تركيا إلى حقبة التقوقع والانعزالية والتراجع الإستراتيجي.
لهذا يرى المراقبون أن الخطوة التي أقدم عليها أردوغان هي خطوة استباقية وتعتبر بمثابة "ضربة معلم" في وجه الفساد؛ بهدف قطع الطريق على الطامحين لإزاحة تركيا من موقعها كدولة مؤثرة وفاعلة على الصعيد الإقليمي.
وترى تركيا أن التطورات الأخيرة تصبّ في صالحها على حساب تراجع النفوذ الإيراني والروسي معًا، الأمر الذي يعزز حظوظ حضورها وتأثيرها إقليميًا. ولهذا، لن يسمح أردوغان بأي تغيير أو تحول قد يؤدي إلى تراجع دور بلاده في المنطقة، لأنّ هذا التنافس قد يخرج من دائرة التنافس الإستراتيجي المحدود، ليدخل في صميم الدور التاريخي لتركيا في المنطقة والعالم.